الاثنين، 17 فبراير 2020

عينا الأخ الذى لا يموت

بسيطة هى لكنها عميقة.. تلك اللحظة التى تتحول عندها الاشياء وتتبدل عندها المصائر، لحظة تقف بها أمام نفسك وتأخذ قرار؛ قرار بأن يتغير كل شئ.. للأبد..
مثل هذه اللحظة عاشها فيراتا_ بطل قصة ستيفان زفايج_ الرجل الذى أطلق عليه قومه لمعان السيف، لان سيفه لايخطئ ابداً وكان محارباً ضليعاً وسياسياً محنكاً.. استعان به الملك ليستعيد جزءاً من مملكته المسلوبة بواسطة بعض المتمردين.. فذهب فيراتا وحاصرهم وهجم ليلاً  فقتل من قتل وأسر من أسر وأعاد للملك مملكته كاملة ولكن حينئذ حانت لحظة الانقلاب..
ذهب فيراتا ليتفقد من قتل وكانت المفاجأة أن وجد أخيه الأكبر شاخص العينين منقطع الأنفاس ضمن قتلاه، عينا اخيه عاتبته فى صمت بارد بطعم الموت.. فذهل فيراتا وارتجف ورغم النصر والإحتفال حوله إلا أنه ظل واجماً.. وجوم المتسلم رسالة لتوه بأن كل من يحمل السيف ويقتل إنما يقتل أخاً له..قرر فيراتا حينها ألا يحمل السيف مطلقاً..
بلغ فيراتا قراره للملك فأحترم الأخير  إختياره على أن يكون قاضياً ليحكم بين الرعية بالعدل..طبق فيراتا أسس العدل فى المملكة وأبيضت جوانب النهر التى كانت قد اصطبغت بحمرة دم من حٌكم عليهم بالإعدام قبل حكم فيراتا..إيمانا منه أن لا أحد يملك حق سلب روح أخيه الإنسان مهما كان الخطأ..
ذات يوم جاءه جمع من الناس من بلدة بعيدة يجرون معهم رجل يدعون 4نه قتل أحد عشر شخصاً طالبين من فيراتا أن يحكم عليه بالقصاص العادل.. فسأله فيراتا عن دوافعه لقتل كل تلك الانفس فرفض المجرم الرد.. فجاء حكم فيراتا بأن يسجن عن كل قتيل عام كامل، ويجلد مائة جلدة لما سببه من فزع لروح أخيه الإنسان.. فاعترض المجرم على الحكم وقال لفيراتا أنه سلب أرواح من قتلهم وهو فى حالة من غياب الوعى ولكن قضاء فيراتا يسلبه سنين حياته بكامل الإرادة، وكيف لإنسان عاش قاضياً أن يشعر بمأساة من تضمهم السجون فى الظلام! ونظر لفيراتا نظرة ملؤها الألم والحنق رأى فيها فيراتا عينى أخيه الذى قتله..
فى اليوم التالى ذهب فيراتا إلى السجن الذى ضم المجرم وبدل معه ملابسه وأعطاه رسالة يسلمها للملك بعد شهر من الحين، سيقضى فيراتا هذا الشهر فى زنزانة إنفراديه ليشعر بما يشعر به السجين ليكون حكمه بعد ذلك منزه عن أى شائبة ظلم.. ذٌهل المجرم واعطى فيراتا وعداً بأن يعود بعد شهر ليكمل مدة عقوبته وهو فى كامل الرضا بحكم رجل سيمتحن ظلام السجن بنفسه كى يحكم بالعدل..
خلال الشهر عانى فيراتا معاناة شديدة، جٌلد مائة جلدة واعتاد الظلام والبرد ووصل لحكمة أن ما من أحد يمتلك حق إصدار الأحكام على الآخرين،وأن مقابلة الشر بالشر قانون ظالم،وأن من الناس من تذبل زهرتهم داخل السجون طبقاً لأحكام أصدرها من قبل وهو الآن يشعر بما عانوه..
بعد مرور الشهر تسلم الملك خطاب فيراتا فذهب له واخرجه من زنزانته وأثنى على فعلته أيما ثناء
وقال له أن ما من أحد أحرص على تطبيق العدالة أكثر من شخص قضى شهراً فى غياهب السجن ليستشعر معاناة الآخرين، لكن فيراتا أعتذر عن  القيام بأى عمل قضائى لانه تحقق من ظلم من يحكم على البشر وأن العقاب بيد الله  ومن يحاول أن يفعل ذلك حتماً سيقع فى خطيئة وهو يريد أن يحيا على الفضيلة..
عاش فيراتا سنوات بعدها لا يحمل سيفاً ولا يصدر حكماً..يعيش بالفضيلة وللفضيلة،إلى أن جاء يوم سمع به صوتاً وجلبة وإذ بأبنائه يضربون خادماً لتأخره المتكرر فى أداء عمله..ذهب وأمرهم بالكف عن أذاه فنظر له الخادم بعينين ملؤها الإمتنان لكنه رأى فيهما عينى أخيه الشاخصتين فى ألم..
قضي فيراتا بأن الخادم قد نال جزائه فليدعوه ينصرف،وحينها أستشعر فيراتا بعظيم الخطأ فقد وجد نفسه يصدر حكماً وهو الذى أخذ على نفسه عهداً بألا يصدر أحكاماً..فأمر أبنائه بتسريح الخدم والبراءة من التحكم بمصائرهم فرفض ذلك الأبناء، فقسم بينهم فيراتا ملكه بالعدل وتركهم ومضى..
عاش فيراتا فى الغابة وسط الطيور وحيوانات البرية، لا يحادث أحداً من البشر ولا يتحكم فى مصائرهم ولا يحكم عليهم.. عاش بالفضيلة وللفضيلة.. إلى أن رآه صياداً فأذاع أمره للملك وذاع صيته للناس وأصبح حديثهم ذلك الرجل الذى ترك ملكه وعاش فى البرية وسط الحيوانات ليحقق الفضيلة التى طالما عاش لأجلها..وحاذ حذوه بعض من الناس إبتغاء الفضيلة فأنطلقوا فى البرية وكلما تقابلوا أشاروا بالسلام دون التحدث حتى يطبقوا شروط العزلة كاملة..
وبينما كان فيراتا يتجول فى الغابة، وجد رجلاً ميتاً وحين عجز عن حمله إنطلق لطلب المساعدة من القرية المجاورة..وبينما هو هناك وسط لفيف من الناس أحس بعينين غريبتين تحدقان به، وعندما دقق النظر وجد سيدة تنظر له بكره عميق..لماذا هذا الكره وأنا لم أؤذى أحداً ولم أختلط بهم؟!..فتتبعها فيراتا وذهب لمنزلها وسألها عن سبب نظره عينيها..
فقالت له أن كان لها من الأبناء ثلاثة  وكان زوجها دمث الخلق رضى الطباع وكان يعمل بالخياطة ليدبر لهم معيشتهم ،إلى أن جاءه صياد وحكى له عن الرجل  الذى ترك ملكه وسكن البرارى إبتغاء الفضيلة،وذات يوم استيقظت ولم تجده،فقد انطلق فى رحلة البحث عن الفضيلة فى الغابة التى يسمونها الناس مأوى التقى، فنزلت بهم الفاقة وأعوز الاطفال الخبز وحل بهم المرض ومات احدهم إثر الآخر،بينما أنت تطعم طيورك وتنأى بنفسك عن كل الوان الشقاء وتوهم الآخرين بأن ذلك يقربهم إلى الله عن العمل والسعى..
ذهل فيراتا مما سمعه وقال لها لم أكن اعلم أن منهجى سيغرى الغير بإتباعه وقد قصدت بأن أسير فى هذا المسلك وحدى..فسألته بإستنكار:أين حكمتك وقد جهلت ما يعلمه الصبية الصغار فى أن كل الأعمال إنما هى أعمال الله وليس فى قدرة أحد أن يفر بإرادته من العمل أويتجنب التبعة؟..أطرق فيراتا فى صمت ثم وعدها بأن يكسر عزلته حتى يغرى زوجها بالعودة..
عاد فيراتا إلى الغابة وودع الطيور والدواب وعاد ادراجه إلى المدينة..
طلب فيراتا مقابلة الملك..فقابله الملك متهللا سعيداً..
فقال له فيراتا
لم أقع فى الخطأ متعمداًلأنى قد فررت من الخطيئة،ولكن أقدامنا مقيدة فى الأرض واعمالنا مقيدة بقوانين خالدة فالإضراب عن العمل هو نفسه عمل ولم استطع ان افلت من عينى الأخ الذى لا يموت وهو يتأثر بأعمالنا سواءكانت خيراً أو شراً وذلك على الرغم من إرادتنا ولكنى مجرم مغرق فى الاجرام لأنى فررت من الله وامتنعت عن خدمة الحياة ولقد كنت غير مرجو النفع لانى كنت لا اتعهد إلا حياتى وحدها ولم أقم بخدمة أى إنسان،والآن أريد العودة إلى الخدمة بعد أن تأكدت أن العزلة لن تمنعنى من كسب عداوات وتحصيل خطايا..
عاد بعدها فيراتا إلى الخدمة،لكنه لم يعد قائداً أو قاضياً وإنما خادماً سعيداً..ولم يعد مذكوراً بين الناس ولم يعلٌ ذكره فى أخبار الفتوحات ولا كتب الحكماء..
لسماع القصة كاملة بصوت ملائكى
https://youtu.be/DMjjjmEjlqQ

1 comments: