الأحد، 12 أبريل 2020

كورونا 1

خرجت كعادتها فى الصباح الباكر، تسابق الشمس فى الشروق.. تريد أن تصل إلى السوق قبل باقى التجار لتكسب "زبون البدرية".. اختارت لها مكاناً رأته مناسباً،وضعت حملها بهدوء وجلست ترتب فى سلعتها.. تبيع البقدونس والجرجير، حملها كله   بخمسين جنيهاً.. تريد ان توزعهم فى حزم متساوية وياحبذا لو استطاعت ان تجعلهم فى سبعين أو ثمانين حزمة.. لو باعت الحزمة بجنيه واحد سيصبح معها ثمانين جنيهًا.. تعطى صاحب الزرع الخمسين وتظفر هى بالثلاثين حلماً..
اعتادت يدها الخشنةالغنية بالتشققات العمل فى هدوء، هاتان يدان يحبهما الله ورسوله.. تبتسم فى صمت عندما تتذكر الحديث، كان زوجها يذكرها به بإستمرار كلما استحت من لمسته الحنونة.. وعندما تسحب يدها من يديه يضعها على وجهه ويلثمها بشفتيه ثم يقول لها" يحبهما الله ورسوله وأكرهها أنا؟!  ياسندى ومتكأى .. "
لطالما حلمت بحياة رغدة تكون فيها سيدة المنزل وكفى،لكنها لاتصفو لأحد فقد جعلتها الحياة سيدة المنزل ورجل البيت وعامود الدار،بعد أن ودعت زوجها الحانى لمثواه الأخير وخلف وراؤه طفلين يتيمين ،وأرملة ثكلى،وعيش مر وصعب المنال ..
يمر أمام عينيها شريط من الذكريات؛ ذكرى الحادث الذى أودى بحياة زوجها عامل اليومية العفيف،ذكرى أول مرة تخرج فيها إلى السوق لتفاجئ زوجها ببضع جنيهات زائدة تتحقق بها أحلام مؤجلة،ذكرى أول حرب خاضتها بعد وفاته لتأسر لقيمات صغيرة تسد بها أفواه يتامى جائعين حتى لا يجتمع عليهم ألمي الفقد والجوع..
ما اقسى الذكريات!  لولا أنها قصرت مدة العمل ووجدت نفسها قد فرغت من ربط كل الحزم.. "يااااارب انت الكريم على عبادك ارزقنى برزق ولادى وافرجها من عندك يا صاحب الفرج" خرجت هذه الكلمات من قلبها بحرقة محتاج ولوعة محروم..
مرت ساعة منذ جلست فى مكانها، لم يمر أحد ولم تقم بعملية بيع واحدة..نظرت حولها لم تجد التجار الدائمين ولاحتى سيارات السلع،اليوم هو الخميس نعم إنه الخميس..ودفء الشمس يشى بأنها تجاوزت السابعة..يبدو أنه سيكون يوماً هادئاً.."يااااارب أجبرنى فى بضاعتى ولا تردنى بيها،واحسن سوقها ولا أرجع بعود منها ياااارب "..لم تمتلك دموعها فى هذه اللحظة،دعاء ممزوج بماء الرجاء لرب كريم،هكذا يكون دعاء المضطر الذى فقد كل السبل إلا وجه الله الكريم...
مرت دقائق أخرى بطيئة ثقيلة،تفكر فيها بالإيجار المتأخر والأوانى الفارغة والملابس البالية والأحلام المشروعة المؤجلة..
قطع تفكيرها مرور شاب فسألته"معلش يابنى والنبى هو النهاردة يوم ايه؟
رد عليها الشاب واجماً" الخميس " فبادرته بسؤال آخر "طب الساعة كام؟" فرد عليها الساعة سبعة ونص يا حاجة،تؤمرينى بحاجة!
ردت بإستغراب وقد تأكدت شكوكها.."مايؤمرش عليك عدو يابنى بس متعرفش الناس مجتش السوق ليه؟! "
ضحك الشاب قائلاً عشان كورونا يا حاجة،كورونا فى الجو هو انتى مش فى الدنيا ولا ايه؟! ردت على ضحكه بضحك وقالت له" لامش فى الدنيا طالما كورونا جت ومقالتليش؟! أبصر هى مين كورونا دى يابنى؟!".._" يااااه يا حاجة الموضوع كبير بس اللى لازم تعرفيه إنك متخرجيش من بيتك الا للضرورة عشان فيه فيروس فى الجو لو دخل جسمك هتموتى فى الحال،عشان كده الحكومة منعت الاسواق وكل التجمعات..قومى روحى ياحاجة وخافى على نفسك..يلا سلام عليكم"..
"وعليكم السلام يابنى ربنا يطمنك"..ردت ذاهلة من عالم آخر،" لغوا السوق..لغوا السوق..طب والزرع ده هعمل فيه إيه،طب والعيال دول هجيبلهم منين..أنت الحنين على عبيدك ياااااارب"..
حملت حملها الذى أصبح ثقيلاً، وعادت تجرجر أذيال الخيبة والحسرة..ما سر هذا الفيروس الصغير؟ أهو يسلب الحياة! فليأت إذن ليجد أن حياتها قد سلبت منها آلاف المرات..هى جسد يتحرك فاقد معنى الروح،لولا النسمات التى تستنشقها فى أحضان ولديها لفقد الجسد الوقود الذى يحركه،ولولا أمنياتهم الضئيلة ماكان يوقظها الامل كل صباح لتنفض عن قلبها غبار اليأس ويذكرها بأن الله موجود يسمع ويرى..
مرت أيام ثقيلة بطيئة،عرفت فيها موضوع الفيروس لكن ماعرفت الخوف منه..تطهير لذنوب ورفع درجات وإنهاء لحياة لا تلذ ولا تطيب هكذا رأت الكائن المهيب..وفى كل مرة تخرج وتختلط بالناس ترجع لولديها فتأخذهم فى أحضانها على غير عادتها..كانت تخاف أن يصيبهم شئ من ضعفها وهشاشتها وقلة حظها،لكن أصبحت حريصة على إحتضانهم بعد سماعها بان اللمس قد ينقل العدوى،أملاً بان يأخذهم الموت عصبة حتى يهنأوا بأحد الدارين..هناك حيث لا مرض ولا جوع ولا هم ولا أفتراق..ما أجمل هذا الحلم الذى لم يقطعه إلا فكرة جاءتها فنغصت عليها التفكير..ماذا لو عاشت بعد هذه المحنة؟! ماذا لو بقيت؟! حينها دعت الله وهو القريب..
"يااااارب لو كتبت لنا الموت دخلنا الجنة واجمعنا فيها وعوضنا هناك،ولو رايد نعيش افرجها علينا يااااارب،افرجها علينا وادينى أمارة إنك هتفرجها..ياااااارب مالناش غيرك ياااارب"..
وماهى إلا لحظات ولاحظت رائحة جميلة فى الجو،ربما كانت رائحة الكون بلا تلوث،ربما كانت رائحة زهور الربيع المتفتحة وربما كانت إشارة الله للأرملة الثكلى..ربما..

1 comments: