كنز (الآن)

           

دائما تشغلنى قضية هل الماضي أجمل أم الحاضر أم (لسه أجمل يوم مجاشي)، أيام طفولتنا كانت  أفضل الأيام لكن حينها كنا نود أن نكبر، وعندما كبرنا شيئا وددنا لو استعدنا أيام الطفولة الجميلة الهانئة، ودائما أتناقش أنا وزوجى فى أن فترة  شبابنا الصعبة والتى تتزامن مع طفولة بناتنا  هى الأفضل فى حياتهن  والتى ستحلمن بإسترجاعها عندما يبلغن من العمر مبلغنا، وربما ستكون الأروع على الإطلاق فى حياتنا  عندما نهرم ونتمنى لو يعود الشباب يوما.

أثناء دراستى الجامعية كان الضيق يصل بنا إلى ذروته.. من صعوبة الدراسة، لتعنت بعض الاساتذة، للارهاق البدنى والنفسي فى ظل الاغتراب الجبرى الذى فرضه علينا موقعنا الجغرافى  فأصبحت سكنى المدينة الجامعية أمر لا جدال فيه. طالب فى مقتبل العمر يطلب العلم فى نصف اليوم أو يزيد ويعود ليجد غرفة باردة  يقتسمها مع خمس أشخاص على الاقل ليس من ضمنهم أمه، يدبر جميع أموره وحده  يمرض وحده  ويستذكر جيدا حتى لاتضيع غربته وكدح أبويه أدراج الرياح، ويأتى أساتذتنا ليقولوا لنا إن هذه الفترة من أجمل فترات حياتكم على الإطلاق.. كنت استغرب بشدة وأتمنى أن تكذب أيامى التالية لتخرجى ادعاءاتهم، يا ويلى لو عشت أياما أصعب من تلك الأيام وعند المقارنة تفوز  الأربع العجاف بجائزة أحلى فترة.

بعدها عشت أياما أتسائل فيها هل فعلا كانت الايام المنصرمة هى الأفضل وانا أعيش الاسوأ الآن. وأتسائل وأتسائل وتمر الأيام دون إجابه واضحة، ماهى الفترة الأفضل ومن هم الأشخاص الذين صنعوا فارقا  فى حياتى وجعلوا فترة مرورهم أجمل؟

ما من يوم أجلس مع زوجى إلا وأتطرق فيه للحديث عن هذه التساؤلات حتى هديت إلى رشدى فى كتاب ل ليو تولستوى الفيلسوف العظيم فهرعت إلى زوجى وقلت له لقد وجدت الإجابة عن تساؤلاتى ولن أرهقك بها بعد الآن فطلب منى الاسهاب فى الحديث.

فقلت له يحكى ان هناك ملك له سلطان جمع فلاسفه عصره والعلماء وطلب منهم الإجابة على ثلاث أسئلة..

_كيف يعرف الإنسان أنسب وقت للشروع فى أى عمل؟

_ومن هو الجدير بوقت الإنسان وثقته؟

_وكيف يتسنى له معرفة أنسب الاشياء الذى يشتغل بها ؟

أسئلة كما أسئلتى تماما كى تعرف أن زوجتك تفكر تفكيرا ملوكيا..فأحتار العلماء والفلاسفة وقالوا أن بإمكانه أن يصنع جدولا ويضع خطة للأعمال، ويقسمها وقال آخرون أن من الصعب التنبؤ بشئ يجب عليه فعله ولكن عليه بفطنته أن يعلم ما يجب فعله فى الوقت الحالى، وما لا يجب فعله، وقالوا أن الجديرين بوقته وثقته هم حراسه، ووزراءه  وقال آخرون الكهنة وآخرون الاطباء، وأنسب الأشياء الذى يشتغل بها هى العلم وقال آخرون فنون القتال وهكذا اختلف الجميع فى الإجابة..

لم تعجب الملك إجاباتهم فقرر أن يذهب لناسك بعيد حتى يجيب عن أسئلته فلبس زيا عاديا وخرج فى موكبه حتى إذا اقترب من كوخ الناسك نزل عن فرسه وأمر حراسه بعدم الإقتراب أكثر حتى لاينكشف أمره، وسار حتى وصل إلى الناسك، فحياه وقال له أتيت لأبحث عندك عن إجابه لأسئلتى هذه وطرحها عليه، وإذ بالناسك يقوم ويمسك فأسه ويشرع فى حرث أرضه..

فطرح عليه الملك الاسئلة عدة مرات وما كان من الناسك الذى ظهر عليه أمارات التعب والارهاق إلا التجاهل الشديد، فأمسك الملك الفأس من يده وأجلس الناسك  حتى ينال قسطا من الراحة عله يجيب  عليه.وعندما اقتربت الشمس من المغيب سأل الملك الناسك هل تملك إجابه لأسئلتى أم أعود أدراجى فقال له الناسك انظر هناك هل ترى ما أراه؟ هناك رجل يقترب وإنه ينزف دما.

وعندما اقترب الغريب وجدوه ينزف نزفا شديدا فهرع الملك يعالج جرحه، ويجفف دمائه، ويهدئ روعه، حتى وقف الدم وهدأ الغريب وآوى إلى الفراش وحينها استسلم الملك لنوم هادئ بعد يوم شاق طويل.

عندما استيقظ الملك سمع صوتا يقول له سامحنى فالتفت لمصدر الصوت فوجد الرجل الغريب..فقال له هل أعرفك وتعرفنى لتطلب منى المسامحة؟فرد عليه الغريب أنا ألد أعدائك؛ فقد قتلت أخى واستوليت على أملاكى وملأ الغيظ قلبى منك فقررت قتلك،  ولما رأيت ابتعاد حراسك عنك انتهزت الفرصة وتربصت لك لأقتلك، لكنك تأخرت عند الناسك فخرجت أتلمسك فرآنى حراسك وأجهزوا علي حتى أصابنى ما أصابنى، فهرعت إليك وعاملتنى بكل شفقة ورقة وعلى الرغم إنى أتيت لأقتلك إلا أنك أعطيت لى الحياة وساعدتنى، والحين أنا مدين لك بحياتى وسأوصي أولادى من بعدى أن يكونوا من اتباعك.. 

تلك كانت صفقة رابحة.. اهتمام الملك بالغريب مقابل اجتثاث جذور العداء والبغضاء التى يكنها له الرجل عبر سنوات طوال. وافترق الرجلان على وعد من الملك أن يتعهد الطبيب الخاص به حالة الغريب حتى يبرأ تماما وان يعيد له كل أملاكه ويزيد.

طلب الملك ان يقابل الناسك مرة أخيرة قبل ان يعود من حيث أتى فقال له الناسك هلا عرفت الآن إجابة أسئلتك الثلاث؟ وعلا صوتى فى ذلك الحين لإكتشافى ان زوجى ينازعنى فيه نعاس شديد.. هل عرفت الإجابة؟ رد عليا بصوت متكدر بلى ماهى؟ كما قال الملك بالضبط.

رد الناسك أن لولا رحمتك معى وشفقتك علي شيخوختى وضعفى واشتغالك بالحرث لكان عدوك _لامحالة _قاتلك. وكنت حينئذ ستندم ندما شديدا على عدم بقائك معى..إذن أفضل عمل بالنسبة لك هو إشتغالك بالحرث وأنفع رجل هو أنا، وإسداؤك الخير هو أفضل ما أشتغلت به..

ولما جاء الغريب  وهو جريح كان هو بطل اللحظة و كان أثمن وقت هو وقت اعتنائك به ولولا ذلك كان سيقضي نحبه دون ان تخمد نار بغضائه..وافضل عمل اشتغلت به هى العناية به  واسداء الخير له.. فدائما وأبدا أثمن وقت للإنسان هو (الآن) لأنه وقت امتلاك و استجماع جميع قواه.. وأنفع إنسان هو من يشاركك هذا الوقت لأنك لا تعلم ما يخبئ لكما القدر بعد تلك اللحظة.. وأنفع عمل هو اسداؤك الخير له لأن لهذا الغرض خلق الله الانسان على مسرح الحياة.. هل فهمت يا عزيزى؟؟

لم أتلق أى رد فهززت زوجى عله يسمعنى..فقال لي فهمت ماذا؟ قلت له أن أثمن وقت لنا هو الآن وأنفع إنسان لك هو أنا وأفضل عمل أقوم به لك هو ان أتركك تنام.. فأومأ لى زوجى بأنى محقة تماما..