الأحد، 22 سبتمبر 2019

القوة الهشة

بائعات السوق المكافحات ..هن نساء قويات قدر صعوبة حياتهن أخذوا مهن الرجال وعملوا بها فى براعة وإتقان ..
عمل يدوم أكثر من ثلثى اليوم وأحمال ثقيلة وأرجل لا تعرف الراحة وأيدى لا تمل من تبادل السلع والنقود مع  المشترين ..وما عساها أن تفعل لو ملت أو تعبت فهو عملها الوحيد ومصدر رزق أسره كاملة.

الابتسامة ضلت الطريق الى وجوههن المشبعة بالأسى فهذه فقدت ابنها والاخرى ابنها سجين والاخرى يعالج أخيها فى مصحة من الادمان .

حقها الفطرى والبسيط فى لقمة دافئة أو وجبة فى طبق عادى؛ مسلوب منها على بساطته والبديل دائما لقمة ساندوتش باردة فى كيس أو سمكة جاهزة على ورقة كرتون، وعلى سبيل الترفيه من الممكن أن تطمع لنفسها فى كوب شاى دافىء من القهوة القريبة وقد شاركها الكوب مئات الزبائن  وعشرات الحشرات ..
الاحسان فى حياتهن حب من طرف واحد وهو إحسانهن للسلع التى يقدمونها وعادة يسمونها (الزرع) ،فتجلس إحداهن تنظف الزرع والاخرى تفرز النوع الواحد لفئات حسب حالتها وتضع عليه السعر الجديد .
حياة صعبة امتهنت انوثتهن وإنسانيتهن ولانهن لم يعرفن غيرها قابلوها برضا شديد وما عساه القنوط أن يفعل فى أفواه جائعة وأطفال يتطلعون إلى حياة يشوبها بعض الاستقرار تحت سقف وليس تحت شمسية من البلاستيك! .

قالت لى أحداهن أن لديها من الابناء أربعة أكبرهن شاباً يحمل مسئولية إخوته ولكن المرض اللعين لا يأتى إلا للنافع فأقعده وتدهورت صحته وفقدت الأسرة عائلها الوحيد وحتم عليها الأمر أن تعترك مع لقمة العيش يومياً حتى تأخذها أسيرة لأفواه جاعت وآمال إستحالت مع قلة الموارد أو فلنقل إنعدامها..

أخرى تحكى أنها كانت تحب إنجاب الذكور فهم الظهر وهم السند '' يوم قالوا ولد ظهرى انسند، ويوم قالوا بنية اتهدت الحيطة عليا ''، رزقها الله بثلاث إناث وذكرين واهتمت بتعليم الذكور ووفرت لهم ما تستطيع اليه سبيلاً من الرفاهيات..وكانت كارثتها يوم علمت تعاطيهما للمواد المخدرة، قالت بكل أسي خاب أملى فيهم وتذكرت أيام شبابى الضائع على الأرصفة  وأنا أجوع لأطعمهم وأشقى لأسعدهم.. سقطت صريعة وحينما أفقت وجدت بناتى يدرن العمل ويسعين فى علاج إخوتهن، بناتى الجاهلات اللائى ظننتهن دائماً حملاً ثقيلاً على كاهلى غير المتسع إلا لذكرين فقط هما سبب شقائى، فليسامحنى الله على ماكان منى وليعوضهن عن كل ما قاسوه حباً وتحناناً..

وأخرى أراها دوما تتشح بالسواد وتلبس معطفاً رجالياً مميزاً لم تخلعه مرة، ولأنها قليلة الكلام على عكس من أعرفهم من أهل السوق فعلاقتى بها محدودة جداً، ذات يوم تعبت تعباً شديداً ورأيتها وأنا اراقبها عن بعد تتلوى من الألم، هرعت إليها وإن كانت لا تعرفنى فأنا أعرفها جيداً وألفت الغموض الذى يلفها، أعطيت لها مسكنا وجرعة ماء أخذتهم واجمة فى صمت وذهول.. فى اليوم التالى ذهبت لأطمئن عليها فقابلتنى بالأحضان الدافئة وقد ذهب عنها بعض الألم وإن نطقت عينيها بغير ذلك.. شكرتنى عن الإهتمام ودعت لى بالصحة وطول عمر الذرية، فبادرتها مازحة '' إن كان عندك عريس فأنا عندى  عرايس زى العسل ومفيش أى  مانع  نناسبكم "فترغرغت عيناها  بالدموع وقالت'' كان عندى واد زى الورد وفرحه كان زى إمبارح من أربع سنين لكنه استخسر فيا الفرحة وراح يتجوز فى الجنة '' وانهارت فى بكاء طويل أزعج كل من حولها وكأنها ولأول مرة تنهمر دموعاً وأحزاناً على الملأ الذين أعتادوا منها _مثلى _على الهدوء والغموض..

 كان شاباً فى السادس والعشرين من عمره، يعمل تاجراً فى السوق يخرج صبيحة كل يوم ليحصل على الزرع الذى سيقوم بتسويقه، أحب فتاة وتعاهدا على الزواج وحدد ميعاداً للعرس وقبيل هذا الميعاد بأسبوعين خرج وعاد أشلاء لأمه التى لم تتعرف عليه إلا من المعطف الذى كان يرتديه وكأن نسيج القماش أقوى من أنسجة اللحم والدم، مات قرة عين والدته ومن حينها وهى ترتدى المعطف وتبيع الزرع وتلوذ بالصمت الذى ينطوى عن آلام وخيبات وذكريات ومن وقت لآخر تداهمها آلام نفس جسدية ناتجة عن إلتهاب الذكريات وإحتقان القلب وغياب حبيب كان هو الأمل والفرح والرجاء..

حكايا لا تنتهى عن آمال وآلام وفرح وخيبات كلها إجتمعت لتشكل شخصية بائعة مكافحة وقوية  على الجانب العملى، وشديدة الرقة وسهلة الإنهمار على الجانب الإنسانى.. الأنثي ستظل أنثى ولو حملت أثقال الدنيا، ستظل محتاجة للأمان والسند والاحتواء وإن ظهر عليها مظاهر القوة والشدة..تحتاج زوجاً وأخاً وأبناً يرفع عن كاهلها الأحمال ويعززها ويكرمها ويمهد لها الطريق فتشع بأنوثتها حباً وحناناً وإبتساماً فما أكرم على الإنسان من أنثى تدلل الزرع وتكرمه ليس فقط لأنه مصدر رزقها ولكن لأنه شاهد على كثير من القصص والدموع..

1 comments: